ما يُرى ليس كلّ ما يُرى.
إنّي أختار حاسّة الرؤية، كنايةً عن الحواسّ الخمس، وما يتماشى معها من حواسّ غير مدرَكة إلّا بالاحتمال والتفلسف. ثمّة ما لا نراه، لكنّنا نستشفّ وجوده المريب، وإنْ من دون خيوطٍ وبراهين وأدلّة دامغة (؟!). كمثل أنْ يُقال إنّ للموت رائحةً تنذر بحلوله، علمًا أنّ بين المعطيات المعلومة والمستخلصة ما يوحي بذلك وينبئ به. وقديمًا قرأنا لشكسبير شيئًا من هذا القبيل، عندما عاد هاملت إلى الدانمارك بعد مقتل أبيه (طبعًا على يد شقيقه)، فشمّ رائحةً تثير العفن والفساد والمؤامرة، ولِمَ لا الإرهاب.
أليس زواج العمّ من الأمّ، فسادًا واغتصابًا؟ وتتويجه ملكًا، ولم، بعدُ، تُشطَف دماء الشقيق، ولم تتخثّر، أليس مؤامرةً وإرهابًا؟!
ما لنا ولشكسبير، ولهاملت. إذ يجب، الآن وهنا، في هذا الشرق الأوسط، وخصوصًا في شرقه الأدنى، حيث لبنان وفلسطين، أنْ لا نتذكّر المسرح، ولا أنّ نذكّر به، ولا أنْ نستحضر جديده المتألّق الخلّاق، ممّا قد يؤجّج الذمّيّة والغيرة والحسد وصغر النفس، ولا بدّ أنْ يعمي العقل، فيحرّك الأفواه والأدوات والدمى، ويثير التأليب والتجريم والطعن والتحريض على القتل. فتعلو الأصوات: يجب أنْ نحول دون المسرح الجديد الجدّي والجادّ، كي تظلّ “الساحة” حكرًا على الفعل السافل، والفعلة السافلين. هكذا يتنطّح (بالجمع والمفرد، وبالتذكير والتأنيث) فاسدٌ منتنٌ زاحفٌ عند أحذية القتلة، فيلقي تهم التطبيع والعمالة والخيانة، في وقتٍ بات كلّ شيءٍ، وكلّ شخصٍ، محسوبَين بالقلم والورقة، وبالأنفاس، وبالأفكار، عند مدير الفرقة الأمميّة التي تشرف على “اللعبة” الجهنّميّة. وأيّ لعبة!
ما يُرى ليس كلّ ما يُرى، وما يُسمَع ليس كلّ ما يُسمَع. وما يُفعَل ليس سوى القليل ممّا يُفعَل في العلن والخفاء، على الملأ وفي الكواليس، وهذا كلّه لأنّ رائحة “الفساد” و”النتن” التآمريَّين الإرهابيَّين الشكسبيريَّين في “هاملت”، لا يمكن أنْ تُكتَم وتُخمَد، ولو دُفِنت في سابع جهنّم، وتحت سابع أرض. وأقول ما أقول لأنّ المُراد والمبتغى أنْ يُجعل لبنان وفلسطين يتيمَين (مقطوعَين من شجرة) على الخريطة الملعونة، وليس ثمّة مَن ينبري، لا ليدافع عنهما (أعوذ بالله)، ولا حتّى أنْ يغسل يديه من دمائهما. بل ثمّة فقط مَن يتولّى وأدهما (يطمرهما حيّين)، على عينك يا تاجر. والحال هي هذه، لن يكون حول طاولة “العشاء السرّي” (الشيطانيّ بامتياز) إلّا المايسترو، ومن يساره واليمين، وحوش الذكاء الشرّير الطبيعيّ – الاصطناعيّ، ليستولدوا ويستنسخوا سائر من يحتاجون إليهم من يهوذات (جمع يهوذا) المنطقة.
وسيُقال نيابةً عن شكسبير القديم، لكن بلسان هاملت الحديث، ما يأتي: رائحة النتن الدانماركيّة – لكي لا تُعاد تُشَمّ – يجب أنْ يُقتَل لبنان. ويجب أنْ تُمحى فلسطين. يجب. يجب. يجب. وبالثلاث. وإذا طرح أحدهم السؤال: مَن سيتولّى فعل القتل والمحو؟ فالجواب جاهزٌ، وهو مؤكّدٌ، ومحسوم: إنّه، ها هو، والآن، مَن يقتل ويمحو. وإذا طُرح سؤالٌ: لأجل ماذا ومَن؟ فالجواب جاهزٌ وتحت الإبط، ومؤكّدٌ بالثلاث: لأجل الشطرنج الأمميّ الذي يستلذّ – تحت يد المايسترو – توقيع عقد الزواج المطلوب، ببنوده كافّةً، وبالرضا والتوافق والتوازن. وهذا يقتضي شرطًا بشرطَين: التضحية بلبنان، والتضحية بفلسطين. أكرّر على الملأ، وبلا مواربة: التضحية بلبنان وفلسطين.
وإذا ثمّة من كلامٍ أخير فهو موجّهٌ حصرًا إلى اللبنانيّين والفلسطينيّين، المعنيّين شرفًا وكرامةً بلبنان وفلسطين: أقلبوا الطاولة قبل فوات الأوان!