من خارج السياق العام، خرج رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع من لقائه مع وزير الخارجية الفرنسي الأسبق جان إيف لودريان، لا ليحدّد موقفه من الطرح الجديد الذي حمله موفد الرئيس الفرنسي، والذي اعتُبِر “بديلاً للحوار”، ولكن ليصوّب على رئيس مجلس النواب نبيه بري، متّهمًا إياه بأنّه “من يعطّل” مجلس النواب، في ما بدا فصلاً جديدًا من “المعركة” بين الجانبين، التي بلغت ذروتها في مقاربة استحقاق رئاسة الجمهورية.
وإذا كان هجوم جعجع على بري، جاء على خلفيّة قول الأخير في حديث تلفزيوني إنّ “القوّات اللبنانية، والتيار الوطني الحرّ ساهما بتعطيل عمل المجلس النيابي الذي يُشكّل اليوم المؤسسة الدستوريّة الشرعيّة الوحيدة في ظلّ الفراغ”، فإنه لا يبدو “معزولاً” في سياق التصويب “القواتي” على رئيس المجلس، الذي قال عنه النائب بيار بو عاصي مثلاً هذا الأسبوع في حديث تلفزيوني أيضًا: “زميلنا الرئيس نبيه بري يتمادى في الاستكبار والاستهتار”.
وفي وقتٍ تُطرح علامات استفهام عن مآلات الهجوم “القواتي” المتزايد على بري في الآونة الأخيرة، بعدما اعتاد “القواتيون” على “تحييد” رئيس المجلس عن حملاتهم التي كانت تتركّز على “حزب الله”، بل “تنحصر” به، ثمّة من يسأل عمّا إذا كان الأمر يمكن أن يشكّل في مكان ما “تقاطعًا آخر” مع “التيار الوطني الحر”، الذي لا يتردّد في “تحميل” بري مسؤولية كل الأزمات، بل إنّ مشكلته مع “حزب الله” تكمن في وقوفه إلى جانبه؟!
من هو “البادئ”؟
بالنسبة إلى أوساط “القوات اللبنانية”، فإنّ “البادئ أظلم”، والبادئ في الهجوم الأخير هو رئيس مجلس النواب، لأنّه من وضع “القوات” و”التيار” في خانة واحدة، عن غير وجه حق، ولأنّه من اتهمهما بـ”تعطيل” البرلمان، في حين أنّ القاصي والداني يعلم أنّ المجلس “معطَّل” بقرار الرئيس بري الذي يرفض الدعوة إلى جلسات انتخابية متتالية، رغم أنّ المجلس “هيئة ناخبة” بحكم الدستور، طالما أنّه لم يقم بواجبه بانتخاب رئيس للجمهورية.
لعلّ المفارقة، وفق هذه الأوساط، أنّ بري وضع “القوات” و”التيار” في خانة واحدة، رغم أنّ الوزير السابق جبران باسيل شارك في أكثر من جلسة ممّا سُمّيت بـ”تشريع الضرورة”، وهو ما لا يجاريه فيه جعجع على الإطلاق، وهو الذي يعتبر أنّه لا يجوز للبرلمان أن يلعب أيّ دور قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وأيّ تشريع لخلاف ذلك يُعَدّ “تطبيعًا مع الفراغ”، في حين أنّ المطلوب انتخاب رئيس قبل أيّ شيء، من أجل انتظام الحياة الدستورية.
من هنا، تعتبر أوساط “القوات” أنّ جعجع هو “المعطّل” للبرلمان، بالتكافل والتضامن مع حلفائه، فهو الذي ينبغي عليه أن يدعو إلى جلسات متتالية لانتخاب رئيس للجمهورية، لا تنتهي إلا بتصاعد الدخان الأبيض، لكنّه يرفض القيام بذلك، متذرّعًا بأنّ هذه الجلسات غير مفيدة، وأنّها تتحول إلى “مسرحيات”، علمًا أنّ الفريق المحسوب عليه هو الذي يتحمّل هذه المسؤولية، بتعطيله النصاب، بل بتكريسه الفراغ، والعمل على التطبيع معه بكلّ بساطة.
تقاطع “التيار” و”القوات”
لا يبدو هذا الهجوم مُستغرَبًا بالنسبة إلى مؤيدي رئيس المجلس، الذين يقولون إنّه اعتاد على هذه “الحملات” التي لا تقدّم ولا تؤخّر، بل يرون أنّ “التقاطع” بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” على الهجوم على بري قد يكون “صادقًا ومقنعًا” أكثر من أيّ “تقاطع” آخر، ولا سيما أنّ القاصي والداني يدرك أنّهما لم يكن لديهما النيّة بإيصال الوزير السابق جهاد أزعور للرئاسة، وكلّ ممارساتهما لا تعدو كونها “نكايات ومناورات” ليس إلا.
يرى هؤلاء أنّ “التيار” و”القوات” هما المعطّلان الحقيقيان لمجلس النواب، شاء جعجع أم أبى، فهما اللذان رفضا التجاوب مع مبادرات وطروحات بري منذ اليوم الأول، علمًا أنّ مشاركتهما في الحوار الذي كان يزمع الدعوة إليه منذ بدايات الأزمة كان يمكن أن يساعد البلاد في تفادي الفراغ الطويل، وهما لا يزالان، وإن تفاوتت مواقفهما، يعطّلان الحوار حتى يومنا هذا، تحت ذريعة “ديمقراطية التصويت”، التي تصطدم بـ”ديمقراطية النصاب”.
يؤكد المؤيدون لبري أنّ رئيس المجلس لا يريد “التطبيع مع الفراغ” ولا يدعو إليه، وهو الحريص دائمًا على تغليب مناخات التوافق والتفاهم بدليل دعوته “الثابتة” إلى الحوار، ولكن المشكلة أنّ “التيار” و”القوات” بتصلّبهما، ورفضهما كلّ الطروحات، هما من يبيحان “المحظورات” ويحوّلانها إلى “ضرورات”، إلا إذا كان المطلوب الغرق في الفوضى والمجهول، وربما الجنون، حتى يقتنعا بأنّ لا حلّ إلا بالحوار والتفاهم.
بالنسبة إلى مؤيّدي بري، فإنّ الهجوم “القواتي”، وقبله “العوني”، على رئيس المجلس، بات “مستهلَكًا”، ولم يعد يحمل “جديدًا”. لكنّ المفارقة برأي هؤلاء، أن يكون مثل هذا الهجوم هو “العنوان” في حديث جعجع مثلاً، بعد لقاء الموفد الرئاسي الفرنسي، في حين أنّ الناس كانوا ينتظرون منه “أملاً”، بعد حديث بري عن “الكوة التي فُتِحت في الجدار”، “كوة” قد لا يكون لها الحظ في إحداث أيّ “خرق”، إذا ما بقيت “النكايات” على هذه الشاكلة!