حين تفلت الأمور وتخرق القوانين وتعمّ الفوضى، تصبح كل المسائل مباحة، والتلاعب، بشتى أنواعه، سيّد الموقف. إنه تلاعب بسعر الدولار، وتلاعب بانهيار القدرة الشرائية للمواطنين، الى أدنى المستويات، وصولاً الى تلاعب سياسي، لا بدّ أن يقوى في زمن الحمّى الانتخابية، لنصبح في القعر النهائي…
والأهم الأهم، أنه تلاعب بالقوانين، تماشياً مع المقولة الرائجة: “السلطة منهارة، والمؤسّسات غائبة”…
هكذا، ربما لا يعود مفاجئاً الكلام عن تلاعب مشبوه في مسائل العقارات وشرائها، الى حدّ الحديث عن عمليات مشبوهة وتخوّف من تغيّر ديموغرافي – جغرافي واسع بدأ التحضير له. فالعدّة موجودة: لا أحد يراقب، ولا أحد يسأل، لأنه غالباً ما تمرّر “الصفقات الكبرى” في عزّ الأزمات، وكأن المحظور يصبح مباحاً.
اللافت في هذه المسألة ما ورد في عظة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الأخيرة، حين تطرّق الى “تعدٍّ على أملاك الغير”، متحدّثاً عن “عمليات مشبوهة لبيع العقارات وشرائها”. وقال: “فيما تغيب مؤسّسات الدولة، يشهد عدد من المناطق اللبنانية تعدّياً على أملاك الغير عنوة ومن دون أيّ رادع رسمي أو قضائي، وعمليات مشبوهة لبيع عقارات، تقوم بها مجموعة سماسرة وشركات مشكوك في أهدافها، لمصلحة أطراف لبنانيين وغرباء يسعون الى تغيير خصوصية تلك المناطق وطابعها لأهداف سياسية وديموغرافية ودينية”.
الرسالة واضحة. الكلمات أكثر من معبّرة: “مجموعة سماسرة”، “شركات مشكوك فيها”، “أطراف لبنانيون وغرباء”، فما حقيقة الأمر؟
انطلاقاً من أن كلام الراعي لا يمكن أن يكون “تلقائياً”، أو بلا أسس أو معلومات تكون قد وصلت الى بكركي وأدرك البطريرك خطورتها، وخصوصاً في تلك المرحلة الضبابية السوداوية من تاريخ الوطن، فاختار أن يدق ناقوس الخطر حولها ويُسمِع كلامه من ينبغي أن يسمع! ولا بدّ أن يكون وراء الموضوع ملفّ دسم قد يهدّد الكيان!
السؤال: ما جديد مسألة بيع العقارات الآن حتى أراد البطريرك إثارتها في عظته؟
وفق معلومات “النهار”، فقد وصلت قبل فترة معطيات الى بكركي وسيّدها تفيد عن عمليات بيع مشبوهة، في مناطق ذات دلالة، وقد تكاثرت أو تقاطعت هذه المعلومات في أكثر من منطقة، حتى بات التنبّه منها أو إليها ضرورة وطنية.
بين عكّار وجزّي
في السياق الزمني نفسه، أوردت “حركة الأرض” على موقعها، أخباراً ومعلومات عن أن ثمّة عمليات مشبوهة في عكّار وجزّين.
ومن المعروف أن “حركة الأرض” تتابع هذه المسائل الوطنية منذ فترة طويلة، وهي دائماً توثق المعطيات عن بيع أراضٍ أو أيّ عمليات لافتة وغريبة في بيع الأراضي أو فيها تلاعب قانوني فاضح، وتعدّ الملفات في هذا الصدد، وتلاحقها لمعرفة أيّ دلالة أو خلفيات لها.
يؤكد رئيس “حركة الأرض” طلال الدويهي لـ”النهار”: “بين الحين والآخر، ننقل هذه المعلومات الى سيّد بكركي، ولا سيّما حين نلمس أيّ تلاعب واضح أو تأثير ديموغرافي خطير. يوماً بعد يوم، نلاحظ أن ثمّة تعدّيات تحصل على أملاك الغير من خلال بعض العمليات التي يجري فيها التحايل على القانون”.
وعمّا يجري تحديداً في عكّار وجزّين، يشرح أنه “في بلدة تكريت – عكار، عمد البعض، لغاية ربّما الهدف الأساسي منها تجاري وفائدة شخصية، الى استغلال الخلافات على إرث أو وجود بعض المالكين خارج لبنان، فحاولوا وضع اليد على بعض العقارات، حيث الطائفة المسيحية من أقدم الطوائف في تلك البلدة، وأرقام أبنائها في سجلّات النفوس من 1 الى 19، ويملكون عقارات شاسعة مسجّلة قانوناً بأسمائهم. والقضيّة هنا تشمل مساحات تمتدّ على أكثر من 20 عقاراً، ولم يحصل لغاية اليوم حصر إرث لها، وقد آلت العقارات الى الأولاد والأحفاد. لكن بعض الورثة عمدوا الى بيع عقارات من هذا الإرث بدون أيّ مسوّغ قانوني، حيث إن بعض كتّاب العدل الذين لا هدف لهم سوى تقاضي الرسوم، أنجزوا المعاملات من دون التحقق من الخرائط والإفادات العقارية وإنجاز حصر الإرث الذي يوزع الحصص على الورثة بشكل واضح”.
وهكذا تمّ ما تمّ وخرج العقار من يد المسيحيين. وفيما الملفّ يتابع اليوم، يلفت الدويهي الى أن “ما يحصل ينطبق عليه التزوير وكتّاب العدل شركاء، وعملية الشراء وكأنها وضع يد، إذ لا يجوز لخمسة أشخاص من الورثة أن يبيعوا كلّ الحصص التي تصل مساحتها الى أكثر من 25 ألف متر مربع”، محذراً من “يشتري بأنه يزيد الوضع تعقيداً، والأمور بلا شك ستأخذ منحى طائفياً”.
أمّا في جزين، فقد رُصد بيع على غفلة، وفق “حركة الأرض”، لعقار في منطقة عين زعرور مساحته ٧٠٠٠ متر. والجميع يعرف تماماً مدى تشبّث أبناء جزّين بأرضهم. يعلّق الدويهي: “قد نسي أو تناسى من باع أرض أجداده انتماءه”، داعياً البلدية “الى إعادة الأرض الى هويّتها”.
المسؤولية واضحة ومتعدّدة. المجالس المحلية مسؤولة من بلديات ومخاتير. كتّاب العدل ايضاً مسؤولون. المجالس القضائية المختصّة مسؤولة، وصولاً الى المسؤولية الكبرى على مستوى السلطات الرسمية!
طريق الشام: 23 عقاراً
لكن القصة لا تتوقف هنا. قبل فترة، رصدت “حركة الأرض” حركة بيع غريبة تتمّ على طول طريق الشام. والغرابة فيها أنها كلها تمّت لعقارات على جانبي الطريق ولأشخاص شيعة!
يخبر الدويهي: “عندما، نتحدّث عن طريق الشام، نقصد طول الطريق الممتدّة من بيروت، عاليه، بحمدون، شتورة، وصولاً الى البقاع. واللافت في الأمر، أن كل عمليات البيع التي تمّت جرت على جانبي هذه الطريق، وهي بلا أدنى شك، وفق معطياتنا، تُعدّ عمليات بيع مشبوهة”.
ولكن أين الشبهة فيها؟ ولمَ اختيار هذه الطريق تحديداً؟
يجيب الدويهي: ” الشبهة أولاً أنها تمّت كلها على جانبي الطريق، أي للعقارات الملاصقة للطريق فقط. والأخطر أنها عمليات فيها احتيال وتلاعب فاضح على القانون، إذ علمنا أنها تُباع لسعوديين، ومن ثمّ يعمد هؤلاء الى بيعها لأشخاص شيعة، بحيث لا يتصرّف المشتري السعودي بالأرض على أنه أجنبي، والغريب أن كل هذه العقارات بيعت لأشخاص من لون واحد، أي أقصد هنا، لأشخاص شيعة. فهل هذه صدفة؟! بالطبع، لا”.
والسؤال: ما عدد هذه العقارات حتى الآن، ومنذ متى رُصدت هذه العمليات؟
يردّ الدويهي: “بدأنا برصد هذه العمليات منذ عام 2017، ولكنها تكاثرت في الآونة الأخيرة. وإلى الآن، بلغ عدد هذه العقارات 23 عقاراً! كلها على جانبي الطريق، ولأشخاص من لون مذهبي واحد”.
ويتدارك: “حتى إن بعض المسيحيين هناك باعوا أيضاً للشيعة، لكن ما دعانا أكثر الى الاستغراب أن أكثرية هذه العقارات لم تسجّل في السجلّ العقاري، فأيّ نوع من الشبهات هذه؟! ثمّ لماذا كلّ هذه العقارات هي على الطريق الممتدّة من الكحّالة وصولاً الى البقاع، كما لم يسجّل أيّ عقار في الداخل، بل فقط شمل البيع عقارات على جانبي الأوتوستراد؟!”.
وإذ يشير الى أن “بعض نواب المنطقة على علم بهذه المعطيات، بعدما زوّدتهم “حركة الأرض” بالمعلومات، لكنهم سكتوا”، يلفت الى “أهمّية طريق الشام أو بالأحرى، رمزيتها، فهي الطريق المعروفة بطريق جبل لبنان، فلماذا ستصبح هذه العقارات للون واحد واضح، ثمّ لماذا لم يُسجَّل عدد منها أو أكثرها، فهذا أيضاً نوع من الشبهات، إذ غالباً ما تمّ الاكتفاء بعقد بيع ممسوح”.
يختم الدويهي: “لا شك في أن هذا الشراء هو شراء سياسي، لأننا كـ”حركة الأرض” لدينا شك، وليس معلومات حتى هذه اللحظة، في أن هذه العمليات تتمّ لمصلحة حزب الله”.
وكأنّ البلاد ينقصها أزمات… أو كأنّ كلّ ما يجري هو تحضير لجوّ ما، ولمشهد لبناني آخر، فيجري إلهاؤنا بالجوع الذي لا يرحم، وبخطر المرض الذي لا يعالج بدواء مفقود، لتمرّر، في كلّ هذه اللحظات، صفقات وتسويات على مستوى الوطن، تمهّد كلها لتبديل صورة لبنان الذي نحبّ… من صفقة التوطين الذي لاحت تباشيره منذ فترة من الشمال، وصولاً الى عمليات بيع مشبوهة، رصدتها “حركة الأرض” فبلّغت البطريرك الراعي، الذي بلّغ الجميع، خلال عظته الاخيرة، في لحظة زمنية ليست بعابرة… فهل من يتحرّك؟ ومن يحمي الأرض والديموغرافيا والوطن؟ لقد أدركنا أن ثمة خطراً قد لا يهدّد طريق الشام فقط أو طريق جبل لبنان، أو منطقة عكّار أو جزين أو غيرها… بل إنه تهديد لهويّة وطن أصبحنا غرباء داخله… ندفع فيه ثمن فراغ سياسي مقيت!