27.8 C
Byblos
Friday, September 20, 2024
أبرز العناوينالمونسنيور عبدو توفيق يعقوب...إشراقة جبل العنفوان في آجواء الفاتيكان

المونسنيور عبدو توفيق يعقوب…إشراقة جبل العنفوان في آجواء الفاتيكان

بقلم الأستاذ غانم عاصي

يوم شرعت أكرّم كتاباتي بإضمامات وجوه مميزة من منطقتي ،والمميزة عندنا ليست بالجاه والمال بل بغنى الفكر والشخص المثال ،ويوم رحت أخصّ بكلماتي عظماء من بلادي والعظمة هنا ليست الّا لتواضعهم وعزمهم وتقدير إنجازاتهم، وسمو إندفاعهم في سبيل أوطانهم. وهكذا عملت بادئ ذي بدء على حصر مقالاتي تلك بمن عاصرتهم وعصرت من عناقيد كرمة أعمارهم، الا إذا كان القدر قد سابقني واختطف تلك الأعمار، نعم فلقد قصدت بعضًا من أولئك الكبار، وجالستهم وحاورتهم وناقشتهم، ثم شهد يراعي لإبداعاتهم و غاصت أفكاري في عطاءاتهم.

أما حكايتي مع “أبونا عبدو” فمختلفة ،إذ لم يسابقني القدر فحسب، بل عالم السفر وعامل ضيق الوقت… وما كان علي ساعة بلوغ نعيه إلّا أن أبارك كلماتي من نبيذ حياته، تلك الحياة الغنية بالخدمة والعلم والبذل والسخاء.

فلقد وعيت عليه في رعيتنا زمن النيابة البطريركيّة “والمطران صفير”، وما أوكله إياه من مهام الإشراف على عمل الأوقاف، ونشأ ذلك الودّ بين عفوية جدّي وكيل الوقف حينذاك وبين واقعية ومحبة الكاهن المشرف أبونا عبدو.

ولقد فاخرت به ومنذ يفاعي صديقًا لعائلتنا، ورحت ألملم غمار الذكريات من حقول الأيام، ومن تلك الجلسات تحت سقف بيتنا العتيق، أو تلك السهرات القروية قرب الموقدفي الليالي الكانونية، وهو الذي استحال بالنسبة لنا كمرشد وصديق،. وهكذا تعمّدت تلك الصداقة بميرون الصدق، ونطقت بشهادة الحق، ومن الصدف المحبّبة أن “أبونا عبدو” هو من ترأّس احتفال المناولة الأولى لصغيرة البيت شقيقتي رفقا، وكان كل ذلك في ثمانينات القرن الماضي، الى أن أقبل زمن التسعينات بأعبائه ودموعه وبرحيل الأحبّة، وكانت مشاركته الكهنوتية المميزة الى جانبنا في أوقات أحزاننا، والمضمّخة بوقفته الإنسانية الغامرة في وداع الجد والوالد سواء في المأتم أم في ذكرى الأربعين، وهي التي دوّنتُها في سجل الوفاء الذي أحفظه في قلبب وفي فكري وعلى الدوام.

وكيف لي أن أنسى يوم دعاني لزيارته في الفدار برفقة الصديق المشترك نعمةاللّه الحويك، حين أهداني باكورة كتبه “les papes et le liban ” وكانت جلسة إيمانيّة وثقافيّة عامرة.

ودارت الأيام، وطالت سنوات البعاد، وأثّرت الضيقات على العباد، وتاقت لأحبّتها البلاد، وأبونا عبدو يبرع ويبرز ويتقدم و يترقى، ونحن نتابع أخباره من بعيد خاصة من بعض أقاربنا وأقاربه بالمصاهرة في المجدل العزيزة. الى أن التقيناه للمرة الأخيرة بمناسبة الإحتفال بجناز الأربعين للراحل المميز والصديق “الريّس جوزف طانيوس باسيل” في كنيسة سيدة الدوير في الفدار، وهو القادم من سفر مُضنٍ في فجر ذلك اليوم التمّوزي، ليلقي كلمة رثاء وجدانية في ذكرى رجل الخير وصديقه . ولا زالت كلماته العفوية التي تضاهي بلاغة التعابير عالقة في ذهني، وكذلك مشاعره الرقيقة والتي تتجاوز أحاسيسه العميقة، ساكنة في بالي، وما إن انتهى الإحتفال التأبيني حتى تقدّمت منه مصافحا ومقدّرا وقفته تلك، فتفاجأت لحظتها بذاكرته “الفظيعة!!، وراح يسألني عن الوالدة والأخوة “وهل تزوجت! ؟……ولا تنسى أن تهديني ذلك الدواء الذي وصفه لي يوما المرحوم جدك الشيخ جوان قائلا كلك فوائد متل زيت الغار”.

وما إن بلغني نعيه هذا الأسبوع، حتى راحت الأفكار تجول في خيالي، وتعالت الصور لترتسم في بالي،بينما سرح الألم يتعمشق في كياني، وتسابقت الى التعبير المعاني.

انه الذي أبصر النور في عائلة متواضعة وطيّبة وسط أشقّاء حاضرين وشقيقات غاليات، فكان ابن العائلة الكريمة غاليا أيضا كالحجارة الكريمة. إنه ابن مجدل العاقورة،تلك الضيعة الوادعة في جرد جبيل الجنوبي والمستلقية في جبّة المنيطرة الحاكية، وهي ضيعة البطولة والرجولة ومنبت الإيمان والوجدان.

انه إبن جبّة المنيطرة الذي كم لاقت به جبّة الكهنوت.

إنه إشراقة جبل الإيمان في عاصمة الكثلكة في الفاتيكان.

هو وأمثاله جعلوا من لبنان رسالة للأديان وإيقونة بين الأوطان

المونسنيور يعقوب حمل مشعال العلم المضاء بالتقوى، وأنار به حيثما وُجد وفي كل زمان ومكان. وقد تهادى بتحصيله العلمي وبشهاداته العليا وخاصة في القانون واللاهوت بين اكليركيّة غزير البطريركيّة في لبنان و جامعة نشر الإيمان في روما فإلى جامعة باريس الكاثوليكية في فرنسا .

وقد جعل من العدل ميزانه فكان المحامي اللامع والقاضي الساطع من المحكمة الإبتدائية الموحّدة المارونيّة الى محكمة التوقيع الرسوليّة وصولا الى محكمة الروتا في روما،من دون أن نغفل الأستاذ المحاضر في القانون الكنسي جامعتي الحكمة والكسليك ، وكان الخادم المتواضع لرعية الفدار الوفية بأرضها وبشرها وعلى مثال حارسها وقديسها وأسقفها مار زخيا.

انه الكاهن الأديب الذي يفاخر به أهل القلم ورغم إنشغالاته استطاع أن يطبع أربع مؤلفات “Les Papes Et Le Liban”, “الأباتي نصرالله شلق العاقوري”، “الياس بطرس الحويك بطريرك الموارنة ولبنان”، كنيسة أم اللّه في يانوح”.

وإذا حلم المونسنيور فإنه يحقق أحلامه وان رحل قبل تحقيقها كلّها، كترميم أول مقر للبطريركية المارونية، الا أنّه تمكّن من ترميم كنيسة أم اللّه في يانوح مثلا وهي من أولى الكنائس المارونية .

وها هي المجدل تلاقيك، وانت الذي تحمل قلبًا ناصعًا كنصاعة ثلجها، ورأيًا صلبًا كصلابة صخرها ووجهًا مشرقًا كإشراقة شمسها، ولم تدعك تسأل كما سأل البطريرك الحويك يوما وإثر عودته من مؤتمر الصلح في باريس، وكتعبير عن تعلّقه بضيعته ومحبته لأهلها :”هل يوجد أحد من ضيعتي حلتا بين الوفود المسقبلة….؟؟”

وهاهي الفدار توافيك، فتستقبل جثمانك الطاهر، وتحتضن جنازتك المهيبة، وها هم الأصدقاء يشيّعونك ونحن منهم،يا أيّها المميز والذي ترحل في زمن مميز، فترحل أيها المجدلي ليلة عيد شفيع رعيّتك مار سابا، ونودّعك أيها القانوني في أسبوع الاحتفال بوضع شرعة حقوق الإنسان والمواطن في الأمم المتحدة، أي في العاشر من كانون الأول من كل عام. وما لفتني أثناء مشاركتي في الجنازة، عدد الأساقفة السبعة وطبعًا وبينهم سيادة راعي الأبرشية المطران عون السامي الإحترام، وهو العدد المرادف لاسرار الكنيسة السبعة ولا بدّ من الإشارة إلى أن المونسنيور يعقوب هو المستشار لمجمع الأسرار،. وكان قد حضر الجنازة أيضا عددا لا يستهان به من الكهنة والأصدقاء الأوفياء، وأمّا غصص الأهل ودموعهم فقد سكبت نكهة من الحزن والرجاء في الأرجاء. ويبقى الرقيم البطريركي لغبطة الراعي كوسام على صدر التاريخ يُعلّق.

“آبونا عبدو” :

إلى البلدة التي أحببت إنطلق ، والى أول طريق سلكت وسط تلك القرى والجبال إسلك، حيث ستعبر من الأرض الى السماء، وهنا وهنالك سوف يلاقيك جمع من الأحبّاء، فإلى اللقاء في العرش السماوي. ا ومن وسم كاهنا بوضع يد البا القديس بولس السادس ، ومن ترقّى قاضيًا على يد البابا القديس أيضا يوحنا بولس الثاني، لهو مشروع قديس.

إرقد بسلام في تربة المجدل التي أحببتها وحملت همّها.

وأعطنا يا رب كهنة قديسين.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!