تطالعنا أصوات “مجهولة” لكن معلومة، تتهكّم على عملية التوريث السياسي بعامة وفي الانتخابات النيابيّة بخاصة، من خلال ما يصدر عنها هي التي تدّعي أبوّة وأمومة “المجتمع المدني”، عبر وسائطها المشبوهة من أفلام وفيديوهات وأقلام على وسائل التواصل الاجتماعي.
كم كان ليكون مفيداً للرأي العام لو تمّت عمليّة ربط خلفيّة الاعتراض هذا على التوريث السياسي، بالمفهوم الاقطاعي القمعي الاستبدادي الخانق للحرّيات العامة والقاتل للفعل الديمقراطي، من جهّة، ولو لم يقتصر التوريث السياسي على الأبناء وتعمّد استثناء الصهر والبنات وابن الأخت والعائلة مجتمعة أو متفرّقة …
لهؤلاء وللرأي العام المدني وغيرهم أتوجّه قائلة، انّ الأمانة العلميّة والموضوعيّة تقتضي التفريق والتمييز ما بين إرث قيميّ – إنساني – إبداعي نابع عن خيار سياسي واضح وحرّ للشعب نتيجة تقييم له لعمليّة استثمار وازن وشريف للوزنات الموروثة لصالح الخير العام، وبين الوراثة العائليّة السياسيّة التي تأسّست على تصنيع الأتباع وتعميم الطاعة العمياء واستغلال النفوذ وانتهاج القوّة والقهر وأو استغلال الحاجات المجتمعيّة وأو إغداق العطايا والمكارم والخدمات والتوظيفات والتعيينات… في ممارسات غير مشروعة.
لا يمكن للتقييم أن يكون واحداً بين الحالتين، كما لا يجوز التعميم.
للإيضاح، وعلى أرض الواقع، عمدت بعض الأصوات مؤخّراً، وكما بات معروفاً، على زجّ اسم النائب المستقيل نعمة افرام وعمداً، مع مجموعة أخرى من الأسماء، بالتوريث السياسي…وهنا بيت القصيد، فراقبوا واحكموا.
نعمة افرام هو نجل رجل عصامي راحل اسمه جورج افرام، صدف لوالده أن استدعاه الواجب ليتولّى مقاليد وزارة الطاقة والمياه ووزارة الصناعة كما وزارة الاتصالات، ولكي ينتخبه شعبه يوماً نائباً.
أورث جورج افرام نجله نعمة رزمة من المبادئ والقيم والمفاهيم الإنسانيّة والعمليّة. الوالد آمن بالإنسان قيمة لامتناهية خصّه الخالق بها، وكان أن أخذ إيمانه أشكال وديعة الوزنة. الابن اعتبر أن لا سياسة ولا سياسيين ولا شرعّية لأيّ عمل سياسي خارج الانسان أوّلاً، ليعود ويطلق “مشروع وطن الانسان” السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي.
ترك الراحل الكبير جورج افرام بصمات إصلاحيّة عميقة في عمله العام، وعُرف بالوجه النبيل في السياسة. نجله ورث عنه حمله لواء الإصلاح العام لا سيّما في قطاع الكهرباء، فوالده كان الوزير الوحيد الأوحد الذي أقيل في تاريخ الجمهوريّة (مع الراحل اميل البيطار زير الصحّة الذي تغلّب عليه كارتيل الأدوية وذلك في الحكومة الأولى في عهد الرئيس سليمان فرنجية والتي ترأسها صائب سلام في تشرين الأول 1970) لأنّه – جورج افرام – كان مدافعاً شرساً عن خزينة الدولة وضدّ الفساد المستشري في هذا القطاع. الابن أكمل المسيرة وأضاف عليها، أكان من خلال طرحه عشرات المبادرات حول الكهرباء والطاقة المتجدّدة وتنفيذها – انظروا إلى ما يمتد فوق نهر بيروت من إنجازه في الطاقة المتجدّدة -، أو من خلال تولّيه مسؤوليّة جمعيّة الصناعيين وفتح المزيد من فرص العمل أمام الشباب اللبناني بعد أن أضاف على مجموعة شركات والده في لبنان والعالم شركات وشركات، عاملاً على الحدّ من الاستيراد وحاثاً على التصدير، منتجاً لنوعيّة رفيعة قادرة على المنافسة، واقفاً أمام هجرة الأدمغة، مهتماً بالبيئة الصناعيّة ومشرّعاً في هذا المجال، وممهّداً الطريق للصناعة لتصبح صديقة للبيئة.
جورج افرام مع الراحل ميشال اده ساهما في أن ترى “المؤسّسة المارونيّة للانتشار النور”. بعد رحيل جورج افرام وطلب اده قبل رحيله أن يُعفى من رئاسة المؤسّسة، أصرّ على نعمة افرام رئيساً لها، فنجح الأخير في تمتين صلاة الوصل ما بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر وفي إضافة مكاتب التمثيل للمؤسّسة في القارات وعواصم دول الانتشار، وأيضاً مع الخيّرين في إقرار قانون استعادة الجنسيّة اللبنانيّة للمنتشرين، وأيضاً في إقرار قانون حقّ الترشّح والانتخاب لهؤلاء. كما نجح في إقرار خطة خمسيّة لتصفير العجز في لجنة الاقتصاد والتخطيط النيابية يوم أصبح نائباً وكان رئيساً لها، سنوات قبل أن يتحضّر لبنان للسير في مثلها مع صندوق النقد الدولي في مفاوضات لم تبدأ بعد!
جورج افرام آمن بقهر مشاعر الحقد وأهميّة التعالي على البغض ونزعة الانتقام. ترفّع عن المادة وتحرّر من الطائفيّة. بلسم الجراح العميقة وخفّف من الأوجاع المزمنة المتأتيّة من أزمات اقتصاديّة متتاليّة. نعمة افرام من ناحيته، راهن على الشبيبة ودعاها إلى الصبر وإلى الإقدام والتغيير وأصرّ ويصرّ أمامهم على تحويل الغضب إلى مشروع. إلى ذلك كلّه كان صامتاً في عطائه، مانعاً على يسراه معرفة ما فعلته يمناه. وهنا، أتحفّظ أمانة عن ذكر المئات من النواحي التي ساندها والتي تعجز عنها بطبيعة الحال دولتنا العليّة…ليحلّ نائباً منتخباً وليكون الأوّل بين أقرانه من الفائزين في منطقته إلى الندوة البرلمانيّة، وليشهر استقالته رفضاً وألماً وانحناء أمام الدماء التي سالت في الرابع من أيلول.
استقال، لكنّه وضع بين أيدي شعبنا برنامجاً سياسيّاً – اقتصاديّاً – اجتماعيّاً – إصلاحيّاً في “مشروع وطن الانسان”. وأتصوّر، مع هذا المشروع ومثله، آن الوقت كي يكون لشعبنا مواعيده مع الحياة.
ختاماً أسأل، كيف لا يخجل هؤلاء حين يتحدّثون عن توريث سياسي من جورج افرام، الرجل الذي أجمع المتابعون من رسميين وسياسيين وروحيين من مختلف الطوائف، واقتصاديين وإعلاميين ودبلوماسيين عرب وأجانب، وفي شكل غير مسبوق، على أن الراحل كان صاحب خلقيّة عالية ونظافـة كف وتجرّد مطلق، مشكّلاً من دون أدنى شك ظاهرة – يا ليت تتعمّم – في الحياة الوطنيّة؟!
إذا فعلاً كان هناك من توريث سياسي من جورج افرام لنعمة افرام، فنِعْم هذا الارث القيميّ – الإنساني – الإبداعي.
ألا أكثر الله على وطننا والانسان فيه من خير هذا الإرث وذلك الموروث.