في جهنم تحاك أشنع المكائد، منها بدافع الانتقام أو الغيرة أو المصلحة الأرضية الآنية الفانية و أخرى حبا بالشر وإجلالا للشرير ليس إلا. تلك النفوس الضعيفة، المسحوقة والوضيعة التي انحدرت فخسرت السلام الأبدي طائعة مختارة، تتآمر في غرف بعيدة عن الأنظار ومظلمة لتخريب ما خلق الله من جمال على الأرض. لكن لماذا؟
الجواب يستوجب العودة إلى الوراء إلى ذاك الماضي المشرق حيث نرى المونسينيور لبكي المخلّص، المنقذ، المدبّر، المبتكر، المؤلف، الكاتب، اللاهوتي، المرنّم، المربّي، المدرّس، المتبرّع، المؤسس، المتعهّد و تطول السبحة….. مفعما بالنشاط ينثر الخير و يبعث الأمل حيثما حلّ. فقد نشأ على يديه ما يقارب الثمانية آلاف شخص منهم كهنة و راهبات ذوي روحانية عالية رغم طفولتهم المأساوية بعد مجزرة الدامور ولا عجب في ذلك لأن هذا اللاهوتيّ المرنّم هو أيضا مرمّم للأنفس المنكسرة فكيف يتّهم بالعكس؟
هذا الذي تتناقله الأجيال متأثّرة بروحه الجميلة وبروحانيته المحفورة في ترانيمه التي طبعت القداس الماروني فألبسته ثوبا زاهرا تطرَب له الأذن و الروح كـ “ليلة الميلاد”، “انشاء الله القمحة اللي انزرعت بقلوبنا”، “عرفت بأن قد تعثر دربي”، “أنت وحدك دعوت”، “في ظل حمايتك نلتجئ يا مريم”.…. كيف تحوّل المونسينيور لبكي من رجل الله الحق إلى هذا الكائن المشوّه كما يعكسه قرار المحكمة الأخير؟ إن الحقيقة مخالفة حتما لما تحاولون رسمه يا سادة، فبالرغم من اتهاماتكم البالية و غير الثابتة، لا يزال منصور لبكي يفيض جمالا و إبداعا حتى في أوج محنته ومن مؤلفاته الأخيرة “مريم يا ناي ألحان السما” ….. هذا الرجل غير قابل للتشويه!
اين الحقيقة اذا؟ …..
الجواب يستدعي الخوض في المؤسسات العديدة التي أنشاهاالمونسينيور لبكي حول العالم ، و تحديدا بيت مريم الذي أنشاهفي لورد فرنسا وجعله مقرا مميزا من حيث موقعه المطلّ على المغارة. في الواقع لقد خصصه لأبناء قومه اللبنانيين الحجاج وولّى عليه تلك المكرّسة لتدير شؤونه، فأدرك لاحقا أن خياره لم يكن صائبا إذ أنها كانت تستقبل النزلاء الأجانب على حساب اللبنانيين هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد لاحظ الأبلبكي سلوكها المنحرف رغم إنذاراته المتكررة لها، مما دفعه إلىإقالتها واستبدالها براهبات الصليب، الأمر الذي أثار سخطها ودفعها إلى تهديده باللجوء إلى والدها لتجعل هذا الكاهن يجثو على ركبتيه “je te mettrai à genoux“. على كل حال، نجد دوما عبر الأزمنة من يريد رأس الإنسان المستقيم على طبق من فضة مقابل رقصة أمام هيرودوس !
من هنا ابتدا درب الصليب حيث لجأ المتآمرون إلى شتى الوسائل الملتوية دعما لمزاعمهم وتواصلوا مع أبناء الأب لبكي ليستميلوا منهم من هو مستعد لدعم قضيتهم ليصار إلى ترتيب و تنسيق أقوالهم لاحقا. لم تكن المهمة صعبة فبعضهم رضي بالوعود المالية ( on fera de bonnes affaires كما ورد في المراسلات فيما بينهم ….. المضبوطة و الموثقة)، والحقد كان كافيا بالنسبة للآخرين لإتمام المهمة سيما أن المونسينيور لم يعد يمدهم بالمال، والملفت أن الجهة المدعية استغلت الاضطرابات النفسية المثبتة التي يعاني منها بعض الأشخاص لبلوغ مآربهم و دعممزاعمهم الأمر الذي يصيب شهادة هؤلاء بالبطلان الكلي. ويكمن السؤال هنا في معرفة سبب الأخذ بهذه الشهادات الناقصة و المزيفة و سبب صرف النظر عن آلاف الشهادات و الأدلة الواردة لصالح المونسينيور لبكي؟
أما المحاكمة من الناحية القانونية فتعوترها شوائب عديدة من شأنها إبطال الحكم، كونها تخالف مبادئ قانونية راسخة، جوهريةومواد صريحة، على سبيل المثال لا الحصر:
– المبدأ الأهم في الإثبات مفاده انه على من يدعي واقعة أو عمل إثباته (la preuve incombe au demandeur qui allègue un fait ou un droit):
وبما ان الجهة المدعية تنوي إثبات واقعة الاعتداء الجنسي، عليها ان تأتي بالإثباتات المستحيلة التالية: أولا: تقرير طبي رسمي يوثق الاحمرار الظاهر على جسم الضحية المزعومة، ثانيا: تقرير طبي رسمي يوثق التوسع في الأماكن الحميمة في جسم الضحية المزعومة، ثالثا: اعتراف المدعى عليه بارتكاب الجرم المزعوم، رابعا: شاهد عيان (غير الضحية المزعومة) يستطيع أن يؤكد ويجزم بأنهرأى بأم العين، وبشكل لا يرقى إليه الشك، أن منصور لبكي هو الذي ارتكب الفعل المشكو منه.
وبانعدام هذه الأدلة الدامغة لا يمكن لأي قاض نزيه أن يحكم على المدعى عليه في ظل غياب آثار الاعتداء.
وفي حال دار الشك حول هوية الفاعل أم حول ثبوت أي من الأفعال المزعومة، يجب على القاضي الامتناع عن الحكم عملا بمبدأ (dans le doute, on s’abstient) ولانعدام العنصر المادي للجريمة.
-من ناحية أخرى، لا يُكتفى بمزاعم الضحايا واتهاماتها المجردة من أي إثبات لأنه يصبح بإمكان أي شخص حينها أن يفتري على من لا يروق له، فتعمّ الفوضى في المجتمع ويصبح الجميع من عامل النظافة مرورا بالموظف وأصحاب المهن والقضاة و الأصحاب و الجيران وصولا إلى رئيس الجمهورية عرضة للملاحقات الكيدية المجردة من الإثبات. إن هذه الممارسات الملتوية تخالف صراحة المبدأ الذي يحرم على المدعي ابتكار الإثباتات من تلقاء نفسه، فالإثبات لا ينبثق عن شخص المدعي بل يجب أن يكون موضوعيا (Objectif) ومستقلا (detaché) عن شخصه وعن مخيلته حين يتقدم به أمام القاضي وإلا يبقى مجرد زعم (Allegation).
– أكثر من ذلك، كيف تكون المحاكمة صحيحة من دون مراعاة حق الدفاع المقدس والمصان في قوانين الدنيا؟ وهنا مخالفة صارخة لمبادئ حق الدفاع أكان ذلك في محاكمة منصور لبكي في فرنسا أم في الفاتيكان على حد سواء، حيث استدعي سابقا ووضع في غرفة تحت حراسة مشددة دون إمكانية الاستعانة بمحام، وقد جرّد من هاتفه ومن أي إمكانية للاتصال بالخارج وكل ذلك للاطلاع على ملف مكوّن من أكثر من مئتي صفحة ضمن مهلة ساعتين، مع العلم بانعدام خبرته القانونية التي تتيح له الخوض في خبايا الألاعيب القانونية ….. هل هذا منصف؟ هل يُعقل ألا يتم الاستماع إلى المدعى عليه الذي يوليه القانون الكلمة الأخيرة في المحاكمة و أن تقتصر أجوبته على كلمتي نعم و كلا؟ لمَ لم يسمح للأب لبكي أن يمثل و يدافع عن نفسه؟ و لمَ أصبح حضوره الآن مهما؟ هل لأنهم ينوون توقيفه؟ لم يتسن للأب لبكي تقديم الأدلةالتي في حوزته، ولا حتى المراسلات المضبوطة التي تثبت المؤامرة ضده أو الشهود الذين يعززون وجهة نظره، ولم يتم قبول طلبه بإجراء فحص سيكولوجي للضحايا المزعومين في حين انه خضع هو لهذا الفحص وأجاب بتفوق على ما يقارب خمس مئة سؤال.
لو تم إخضاع الضحايا الأربعة المزعومة لفحص سيكولوجي،لكانت المحكمة قد تيقنت أن الضحية الأولى هي فعلا ضحية اعتداء جنسي من قبل جدها وكانت في الوقت نفسه معنفة من قبل والدها أما الضحيتين الثانية والثالثة فهما بالفعل ضحيتي اعتداء عمهما الجنسي عليهما، أما الضحية الرابعة المزعومة فتعاني من اضطراب عقلي. وهنا نسال لماذا رُفض طلب لبكي مواجهة المدعيات أمام القاضي؟ هل سألت المحكمة نفسها عن العدد الضخم للضحايا المزعومة مقارنة بإمكانية توفر الوقتالكافي للأب لبكي ليرتكب ما نسب إليه؟ هل سألت المحكمة نفسها كيف أقدم هذا الكاهن على فعلته هذه في مؤسسات تعج بالأولاد والكبار؟ هل سألت المحكمة نفسها إذا ما سُمع صراخ احدهم؟ هل سألت المحكمة نفسها عن سبب التأخر في الادعاء الوارد بعد ثلاثين و أربعين سنة من بلوغ الضحايا المزعومة سن الرشد؟ لماذا نبتت هذه الادعاءات بعد الاستغناء عن خدمات هذه المكرسة في لورد؟ هل تعلم المحكمة أن اليهود المتشددين لن يغفروا لمنصور لبكي قبول عضو الأكاديمية الفرنسية سر التثبيت، المناولة الأولى و مشحة المرضى واعتناقها الدين المسيحي الحق علىيده بمرافقته لها و تنشئتها على الدين والإيمان المسيحي القويم؟
– يضاف إلى كل ذلك تحريف أقوال المونسينور لبكي حين استوحوا من كلامه اعترافا مفبركا يفيد اعتداءه على الضحايا المزعومين في حين أن الجملة التي وردت على لسانه كانت كالتالي: ” انا خاطئ لكني لست مجرما” (je suis pécheur mais je ne suis pas criminel) و هذه الجملة قد وردت على لسان غيره ومنهم البابا فرنسيس الذي وصف نفسه بالخاطئ….. اوليس الكل خاطئا؟ ومن كان بلا خطيئة فليرجمهما بحجر !
– لا بل أكثر من ذلك، لقد طُلب إلى المونسنيور لبكي التراجع عن الدعاوى الجزائية المقامة بوجه الأشخاص الذين شهّروا بسمعته وما في ذلك إلا نكرانا فاضحا لحقه في الدفاع عن نفسه لان نُذرالطاعة لا يجعل منه مواطنا فئة عاشرة ولا يجرّده من حقوق يعترف بها القانون حتى للمجرمين القتلة القابعين في سجن روميه.
– وما جلسة يوم الاثنين الفائت إلا ترجمة للمخالفات الصارخة المعددة آنفا بحيث ابتدأت الجلسة في التاسعة صباحا واختتمت في العاشرة مساءا وقد خُصصت ساعة واحدة للاستماع إلىمحامية المدعى عليه في حين أن المحكمة أولت الجهة المدعية كامل الوقت المتبقي للانقضاض على المونسنيور لبكي، مع العلم، أنالقرار النهائي قد سُرّب إلى بعض الأوساط قبل اختتام المحاكمةوالنطق بالحكم!
– ولا بد لنا من أن ننوه بموقف غبطة البطريرك الكاردينال ماربشارة بطرس الراعي، الذي بعد اطلاعه على الملف، قد تيقن من براءة الكاهن لبكي، وأنصفه مدليا برأيه علنا في مدرسة القديس يوسف عينطوره حين قال أن هذا الرجل قد ظلم حقا ! وهنا لا بد من الملاحظة أن البطريرك، صاحب الفكر النير والمتمرس في القانون، هو أيضا أستاذ مادة أصول المحاكمات الكنسية التي درّسها في الجامعة حين كنت طالبا في صفه آنذاك. لا شك في أن رأي هذا الخبير القانوني الكبير حجر زاوية في الملف الراهن و لا يتبدّل مع تغيُّر وجهة الرياح، وبالنسبة للأشخاص الذين يتخذون من خضوعه للحكم الصادر عن الفاتيكان دليلا على إدانة منصور لبكي، نقول بان موقف غبطة البطريرك يندرج في خانة الطاعة للسلطات الكنسية العليا الفاتيكانية وليس بأي شكل عدولا عن موقفه السابق، الثابت و النابع من قناعته القانونية المرتكزة علىاطلاع شامل على الملف المذكور.
وبالنهاية، إذا ما سلمنا على سبيل الجدل بعدم مرور الزمن على المدعيات الأربعة، تبقى الأدلة سيدة الموقف ( احمرار، توسّع، حفّ، فض بكارة، تضرر أنسجة، شاهد عيان و يجب أن تقوم علاقة سببية بين الأفعال المزعومة و الآثار ….. موثقة شرعيا)، وفي غيابها يبقى ملف محاكمة المونسنيور لبكي فارغا من كل دليل بحيث يستحيل تجريمه أو تطبيق أي عقوبة بحقه ويجدر بأيمحكمة تحترم نفسها إعلان براءته فورا والاعتذار منه عن المس بسمعته من غير وجه حق. أخيرا و ليس آخرا، لقد لوحق بعض الكهنة و الأساقفة الذين كانوا مولجين بتحريك ملف منصور لبكي بالتهم ذاتها أثناء تعاقبهم على على قضيته و هذا دليل قاطع على عدم أهليتهم لإتهام هذا الكاهن الفاضل.
إن المسخ المرسوم في هذا القرار هو في الواقع من نسج مخيلة الجهة المدعية وهو يعكس نظرتها ونظرة من يقف خلفها لهذه الدنيا، و المجد الزمنيّ الباطل القائم على قرار قضائي تعتوره شوائب جمة، ابرزها مرور الزمن و غياب الأدلة و التي تؤدي إلى إبطاله، لا وزن له في الملكوت، وعلى كلٍ، ليست هذه إلا جولة، أماالحرب، فقد حسمت في السماء لصالح المونسنيور لبكي، وان شهدتم فاشهدوا بالحق، وان نطقتم فانطقوا بالعدل، وان ظننتم فظنوا بالخير و اطرحوا الشيطان جانبا و إن شككتم بقدرة الأرض على كشف مكائدكم فاعلموا أن الله بكل شيء عليم!