29.2 C
Byblos
Friday, September 20, 2024
جبيلياتبالصور-حصارات تودع رجل العطاء والآدامي... شربل بولس وان خانك القلب...

بالصور-حصارات تودع رجل العطاء والآدامي… شربل بولس وان خانك القلب فأنت حيّ في كل قلب

بقلم الاستاذ غانم عاصي

وتراكمت الأوجاع، وتكدّست الجروحات، وعظمت فداحة الغياب، منذ أن حلّ المصاب برحيل هذا الرجل الطيّب، وعزّ على ذويه و ومُريديه غياب وجهه عن هذه الربوع الحصاراتيّة وهو في عزّ عطائه. ، فرحل ليلاقي وجه ربّه وبهذه السّرعة، وانطفأ مصباحه على حين غفلة، وخانه قلبه ليحيا في كلّ قلبٍ، تاركًا وراءه غصّات وعيونًا مُقرّحة بالدموع.

فبالأمس أشرق صباحي حزنًا، على خبر توقّف قلب الصديق المونسينيور توفيق بو هدير، ولم يكد الحزن يبلغ ما بلغه من أحاسيسي وفي كياني، حتّى صفعني هذا القدر صفعة أخرى بحلول المساء الذي صبغ بالحزن، حيث صبغه توقّف قلب إبن ضيعتي ورفيق دروب العمران وخدمة الإنسان ومسلك الإيمان، الرّاحل شربل جرجي بولس، ورأيته واجبًا عليّ أن أحييه للمرّة الأخيرة تحيّة تقدير، وهو تقدير ورثته عن عائلتي واكتسبته من علاقة مميّزة طالما جمعتنا.

 

وشربل بولس من حاول التعرّف الى شخصيّته، ما عليه إلا أن يغوص في مسيرته الإنسانيّة وروحه النقيّة وأياديه السخيّة واندفاعته القويّة وحسن هندامه وإطلالته البهيّة وسمعته العطرة ونفسيّته الغنيّة…

وتربط هذا الراحل الغالي بالكنيسة روابط عشق وإيمان، فهو ما بارح يومًا عتبة كنيسة سيّدة البيدر ،ونادرًا ما كان يغيب عن إحتفالاتها، وهل من يوم أحد إلّا ويصطف مع عائلته في القدّاس، هذه العائلة التي أحاطها بعاطفة والديّة نبيلة وبتأمين كل ما تحتاجه لتحصيلها العلمي وبمتابعتها بعطف وحنو، وخاصّة بعد وفاة تلك الزوجة الفاضلة والمُحبّة والمتفانية” رندى” ،حيث لعب دور الأب والأمّ وتابع تربية تلك العائلة على المبادئ الطيّبة والمزايا السامية والتصرّفات الراقية، والحفاظ على تقاليد عائلة تحذّر منها، حيث نشأ في كنف والديْن فاضليْن مؤمنيْن فالوالد “جرجي شربل” صديق عائلتنا بوفائه وانفتاحه وصاحب الدمعة السخيّة والروح الخلوقة، والوالدة “جميلة” ، جميلة الخُلْق والخَلْق ومليحة التصرّفات، وصاحبة القامة الممشوقة، وكل ذلك جعل من” أبوجورج” ينشأ وسط أشقّاء وشقيقات جاهدوا في هذه الحياة ليبنوا عائلاتهم ويؤسّسوا بيوتهم، وعاشوا في سلام ووئام، وكانت العائلة قد فقدت بكرها مالك باكرًا، فلعب شربل دور الشقيق الأكبر وكان خير من قام بهذا الدّور.

وإذا كان الإيمان بلا أعمال كالجسد بلا روح، وإذا كانت المحبّة ليست بالكلام أو باللّسان بل بالعمل والحقّ.

وهكذا إقترن إيمانه بالأعمال ومحبّته بالأفعال، فباشر بالسعي مع من سعى لإطلاق مشروع المجمّع الرعوي في ضيعتنا، وكان الساهر على وضع الحجر الأساس للمشروع ومرافقًا مرحلته الأولى، وكان أن تعاوننا معًا ومع نخبة من أخوتنا وأهلنا الطيّبين إلى أن بلغنا الميناء الأمين وبقوّة الربّ المستجيب والمعين، حيث تشاركنا في لجنة بناء الكنيسة، ثمّ تابعنا وبقينا على تواصل معه وعلى تنسيق ضمن إطار احترام من سبقنا في نثر عطر عطائه وبما يليق.

وأكمل الرّاحل العمل في الشأن العام وانتقل إلى رئاسة النادي وكان النادي في عهد رئاسته ناشطًا وحيويًّا، وكانت قد جمعتنا به كما جمعت الوالد هيئات إداريّة عديدة، وخاصّة الهيئة الإداريّة التي قرّرت وتابعت إنشاء الملعب المقفل.

وكان شربل حاضرًا عند كلّ منعطف وفي أوقات الفرح أو الضيق ليساعد من دون منّة، وليؤمّن لضيعته ما تحتاجه، ومن منّا ينسى يوم ساعد في تأمين محوّل كهربائي للقرية بعد تعطّل المحوّل الموجود في أواخر ثمانينات القرن الماضي. ومن منّا لا يشهد بالأمس القريب رفضه تدشين الكنيسة قبل تأمين مقاعدها الخشبية كاملة، وكما هو معروف كان هو المتبرّع بجوده وماله.

أمّا العلاقات والواجبات الإجتماعيّة فما كان ليقحمها في السيّاسات الصغيرة، كأولئك الذين يتهافتون إلى من يقترع لهم أو يعتبر من أزلامهم، ويتغيّبون عن الأخرين.

كما أنّه لو صدف أن إختلفنا معه في الرأي ولو وصل أحيانًا ذلك الإختلاف إلى حدود التصادم الكلامي حول بعض المسائل، فإنّه ما إن نلتقي حتّى يسبقني بالإبتسامة والتحيّة ويميّل إلى محلّي بكلّ صفاء نيّة.

كما أنّ اللّعب بأمور القرية والإستهتار بعاداتها وتقاليدها كانت عنده خطًّا أحمر، ونذكر جميعًا وقفته منذ أشهر في وجه من أراد سَلْبَنا عاداتنا المُحبّبة في أحد المآتم، وإجبارنا على التخلّي عن عاداتنا القرويّة العريقة، وكان صراخ الراحل يشقّ الآذان، وأثنى على موقفه جميع الطيّبين من أبناء القرية. وكان الصوت الصارخ في برّيّة ضلال من يأخذنا إلى ما لا يليق بنا، ويجعلنا نتنكّر لتاريخنا وتراثنا.

وصدف إن إلتقينا مؤخّرًا وفي أوائل الشهر الجاري في إفتتاح مشروع “بي باص” في الحديقة العامة في جبيل فكرّر دعوته لي إلى مائدة كي نتحاور في الإستحقاقات القادمة، ولكنّني اشترطت عليه العمل على حل الأمور الرعويّة المتأزّمة بسبب…!!! قبل كل شيء… وتواعدنا على إيجاد الحلول الملائمة لكن موعده مع السماء كان أقرب.

ومهما حدث بيننا كانت المودّة سيّدة الموقف عملًا بوصيّة والدي، الذي خرق الموانع والحظر على حضور إكليل شربل في أوائل التسعينات، وأرسل إليه برسالة تهنئة من على فراش الوجع، ثم أرسل إليّ برسالة أخرى طالبا مني حضور فرح صديقه، وهذا ما فعلته. أمّا يوم مأتم والدي وتهافت البعض على الإختلاف على حمل جثمانه ،

فكان جسد شربل هو المتلقّف وقلب شربل هو المتلهّف.

ويشهد للراحل العزيز بالكرم الحاتمي والموائد الممدودة للسخاء، والبيت المفتوح “للسيف وللضيف ولغدرات الزمان” ولَكَمْ لبّينا دعواته، ونثرنا كلماتنا على المدعوّين من الأحبار والأعيان ومن الأهل والإخوان. ونحن نحدّق ونغرف من إبتساماته ولمساته ونبادله رفع الأنخاب، ونستريح لملقاه وللترحاب ونتمنى لهذه الدار أن تبقى للكرم مشرّعة الأبواب.

وهذا “الموظّف المتفاني” سلبه القدر من حقّه في التمتّع بسني تقاعده بعد أشهر قليلة من حلولها. وبالتالي حجب عنه مشاركة فلذاته في أفراحهم وفي مستقبلهم.حين توقّف ذلك القلب الكبير عن الخفقان.

وراحت تتردّد كلمات تقليديّة ولكنّها بالمعاني غنية “ضيعان الأوادم”” ما عم نفقد إلّا الأوادم”.

إذا كان بعض الرجال لا يذكرهم التاريخ فإن البعض الآخر هم “صنّاع” التاريخ، وإن انزعج منّا بعض أهل المصالح وفارغي النصائح. كلما طالبنا بمن لهم تاريخ للولوج إلى خدمة الشأن العام، فالتاريخ لا يَنْظم كقصيدة من مثل قصائد المتنبّي لسيف الدولة، إنّما التاريخ يُعاش كما عايشناه، ويُحفر على جبهة الأيّام بمداد عرف الجبين، وبإزميل العطاء والسخاء والنقاء والإخاء. ورحل “أبو جورج” اليوم ليلتحق بنخبة من أترابه وزملائه البنّائين والمحبين والمغامرين والمضحّين في سبيل ضيعتهم وتقدّمها ،منهم من نتمنى أن يطيل الله بأعمارهم، ومنهم من رحل ومشاريعه اليوم في سمائه. رحمهم اللّه وهم من أمثال : المختار موسي بولس والأستاذ كريم سعادة والأستاذ سعادة سعادة…وغيرهم من الطيبي الذكر…

أيّها الراحل الغالي:

لقد خلدت ذكراك بما تركت وبمن تراك. طيّب الله ثراك، ولأهلك ولمحبّيك العزاء.

- إعلان -
- إعلان -

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- إعلانات -
- إعلانات -

الأكثر قراءة

- إعلانات -
- إعلانات -
- إعلان -
- إعلان -
error: Content is protected !!