يتحكم الدولار بأعناق اللبنانيين أرضاً وسماءً وبحراً كأنّه الحاكم بأمر الله وعليهم تقديم الطاعة له مع كل فجر، وطلب الرحمة عند كل مغيب. واللافت هو أنّه ما من كبير يصمد أمامه، بحيث يتمتّع بأربعة أسعار للصرف تدور بين المركزي والصيارفة والبنوك والسوق السوداء، والأربعة هم شركاء متضامنين في الخفاء وأعداء في العلن. وبين لعبة الصرافين و”تريّس” السوق السوداء وتهافت التجار للشراء، يحلق الدولار عالياً متخطّياً الحدود والقيود.
تحليق الدولار يترافق مع احتجاجات ومظاهرات شعبية مسائية، لا تقتصر على النزول الى الشارع فقط للتعبير عن الوضع الراهن، بل تتحول الى حفلة صاخبة، تعلو فيها أصوات التكسير والتحطيم، أمّا “الموتوسيكلات” فتزيّن جميع شاشات التلفزة. فالشارع اصبح هو الحل الوحيد لتصفية الحسابات أو لزكزكة فلان بعلان كما شهدنا بالأيام الماضية نزول جماعة بهاء بالخندق لزكزكة سعد.
والدولة هنا في وضعية المراقب تنتظر إخماد غضب الشارع لتظهر وكأنها ممرضة تعطي حقن الرحمة لمن ينتظر ملاقاة ربّه. ويبدأ السباق الى من يسجّل هدف تعاطف مع الشعب، فيكون الخطاب إيهام الناس أن الدولة تعمل على احتواء الوضع فيأتيك موقف لرئيس مجلس النواب الذي يعبّر عن عدم رضاه عن أداء رئيس جمهورية البلاد، لكونه اتصل بحاكم مصرف لبنان وبحث معه كيفية تخفيض سعر صرف الدولار إزاء العملة اللبنانية. ويأتيك رئيس الجمهورية ليعلن عن اجتماع يضم رؤساء الكتل النيابية والحكومات السابقة للبحث في أمور البلاد، فيأتي الرد مِن مَن بات الخناق المالي عليه ضيّقا شيئاً فشيئاً بعد الطلب بإغلاق المعابر غير الشرعية وفرض الأمن وضبط الحدود مع سوريا لعدم التهريب منها واليها خاصة الدولار والمازوت.
أما الحاكم المحبوب دولياً والمحارب حزبياً والمكروه صرفياً، يداه مفرغة من الدولار اليوم بعد أن عاش اللبنانيون على تطميناته سنين طويلة أن الليرة بخير والاحتياط كافٍ ووفير من العملة الصعبة في مصرف لبنان ومصارفه، علماً أنّه حسب ما جاء على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، تم تحويل أكثر من ٢٠ مليار دولار الي خارج البلاد في بدايات الثورة خاصة بعد المشاكل التي تعرّضت لها هذه المصارف والخسائر التي ألمّت بها في تركيا وسوريا ومصر.
وحسب ما أدلى به الوزير علي حسن خليل في برنامج صار الوقت أن مصرف لبنان كان يقترض طوال الفترة الماضية لاستقرار الدولار واليوم الدولة تستدين منه لدفع رواتب القطاع العام ونفقات الدولار، وهو بدوره أقرض المصارف وموّل مشاريع الدولة وأهل السلطة هم نفسهم أصحاب المصارف الذين يتحكمون في زمام الامور علماً أنه لو حققت الدولة بعضاً من ما طلبه المجتمع الدولي وصندوق النقد من إقرار القوانين والقيام بالإصلاحات كإغلاق المعابر غير الشرعية، ومحاربة الفساد ومنع هدر المال العام، ورفع السرية المصرفية عن السياسيين ومحاكمتهم واسترجاع الاموال المنهوبة، وإيجاد حل لملف الكهرباء الذي يعتبر السبب المباشر في زيادة الدين العام في لبنان بنسبة تخطّت الـ ٤٥٪لكانت دولارات “سيدر” أبصرت النور واعطت جرعة صمود لوطن وشعب باتوا في حفرة، والمؤسف هو أنّ التاريخ يعيد نفسه. فمشهد اليوم شبيه بمشهد الـ 1985سواء لناحية إحراق الإطارات، والمظاهرات الشعبية، والتجمعات أمام محلات الصيرفة، ويكتمل المشهد باصطفاف طوابير أمام المخابز ومحطات الوقود والمحلات التموينية احتجاجاً على الغلاء الفاحش من جهة، وانعدام القدرة الشرائية من جهة أخرى في الأيام القادمة.
أمّا انهيار الليرة فليس بأمر جديد. ففي سنة ١٩٩٢ انهارت الليرة مقابل العملة الصعبة، وكما كانت ودائع الناس في حينها بتصرّف المصارف، ودائع الناس اليوم بتصرّف هذه المصارف. ولعلّ أكثر ما يلفت النظر هو أنّ وجوه الوطن التي حوّلته آنذاك الى ما هو عليه اليوم، هي نفسها تعيد اللعب بالمكوك من جديد غير آبهة لا بعجز ولا بهدر ولا حتى بفساد. لا بل رسمت للبنان طريقاً جديداً للهلاك الاقتصاد.
باختصار، تحوّلنا إلى نموذج يشبه نموذج دول أوروبا الشرقية سابقاً، ويشبه سوريا وفنزويلا حديثاً.
الدولار هو الميركافا التي لن يقدر أحد على صدّها أو ردعها سوى الدولار نفسه، والدولة غير قادرة على تأمين هذا الدولار، ومصرف لبنان غير قادر على ضخ المليارات المطلوبة لتغطية حاجيات السوق، ولا حتى ضبط عمليات التهريب الى سوريا. وبالتالي إن تمت عملية الضخ فهي ستنعش البلد لأشهر قليلة فقط وبعدها سنكون أمام أزمة. فالمخاطر اليوم باتت تشمل استمرارية المدرسة، الجامعة، المستشفى والفندق. بمعنى آخر، العلم الذي يرفرف على أبنية المؤسسات العامة هو آخر ما تبقّى من معالم الدولة. التاجر غير قادر على الاستيراد، والمستهلك يطلب الرحمة، والقيصر ضيفنا الثقيل، الذي دخل دارنا بالقوة، والله العليم الوحيد بمصيرنا.